الجمعة، 18 مارس 2011

أحصاه الله ونسوه...


أحصاه الله ونسوه...



في غمرة العمر المضيع أكثره هباء... تنساق بنا آلاف المواقف؛ يمر بعضها مرورا عاديا لا يلتفت إليه، ويمر بعضها مرورا يترك أثرا في نفوسنا، وكثير منها... قد لا يمر!        
أذكر أنه كانت لنا رفيقة أصابها ذات يوم وجع في رأسها، ولأن "وجع الرأس" في بلادنا  أمر عادي لم نعط للأمر أهمية كبرى واكتفينا بإعطائها بعض الأدوية والمسكنات ونحن على يقين بأن الأمر لا يتجاوز حد "الوجع العادي" غير أننا فوجئنا بصديقتنا تبكي من شدة الألم ثم لم يلبث بكائها أن تحول إلى شهقات وأنين سقطت بعدها مغشيا عليها! ومع هول المفاجأة ذهبنا بها إلى أقرب مشفى، وهناك استقبلنا طبيب الطواريء –وهو طبيب امتياز على أغلب  الظنون- وبعد الفحص انتهى به التشخيص إلى أنها "حالة نفسية" وأنه لا جدوى من بقائها بالمشفى.   
        ولما كنا نرى من حالها فقد خرجنا بها محمولة على أعناقنا نحو مشفى آخر، وبعد إجراء اللازم، تبين أنها تعاني من نزف بالمخ. غير أن القائمين على المشفى رفضوا استقبالها حتى يتم إنهاء كافة الإجراءات "المادية"، كانت حالة رفيقتنا قد أخذت في التدهور شيئا فشئا فلم نجد بدا من أن ننقسم إلى فريقين؛ الأول يتحرك في سبيل تأمين المادة اللازمة والثاني يتحرك "سريعا" نحو مشفى ثالث، وانتهى بنا المطاف في إحدى مستشفيات الجامعة وهناك فوجئنا بأن رفيقتنا قد دخلت في غيبوبة كاملة أدخلت على أثرها إلى (الرعاية المركزة) ليتم بعد ذلك استدعاء    أهلها...                                                                   
وقف الأطباء عاجزين عن التشخيص والدواء ستة أيام... ستة أيام ورفيقتنا في غيبوبة كاملة! بعدها انقسم الأطباء ما بين مؤيد ومعارض فالأول يرى بقاءها على الأجهزة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا والثاني يرى  تركها حتى تعبر بسلام، ثم جاء دورنا... كان الأمر في حاجة إلى حل فاصل وحكم راجح فارتأى الأطباء الاستعانة "بآكابر" الأطباء للنظر في أمر المريضة فأخذنا نبحث ونسأل حتى اهتدينا إلى ثلاثة من الأطباء الأول كان هاتفه (مرفوعا من الخدمة) والثاني كان هاتفه "رافضا للخدمة" أما الثالث فكان لنا معه شرف هذا الحوار...
نحن "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"
الطرف الآخر "وعليكم"
نحن "دكتور (......)؟"
الطرف الآخر "مين عاوزه؟"
نحن "والله احنا كنا عايزين نستشير حضرته في حالة مستعجلة"
وعندها صرخ بنا "عايزين تستشيروني في حالة الساعة اتناشر بالليل؟؟؟!!!!!!!!"
فعلمنا أنه الطبيب...
نحن "والله يا دكتور احنا آسفين جدا إن احنا بنكلم حضرتك في الوقت ده بس أصل صاحبتنا في غيبوبة بقالها أكتر من ست أيام والدكاترة في المستشفى عايزين ياخدوا رأي حضرتك في حالتها لأنها اتأخرت قوي وخايفين نستنى لبكرة الوقت مايسعفناش"
هو "وأنا هعملكوا إيه الساعة اتناشر بالليل؟؟؟!!!!!!!!"
ولما استغلق بنا، ولم نجد إلا أن نعتذر ثم ننسحب صرخ بنا للمرة الثانية "استنوا! هيا حالتها إيه بالظبط؟" فبدأنا في شرح الحالة ليقاطعنا قائلا "اخلصوا أنا عايز أدخل أنام"
وعندما حاولنا الإيجاز بقدر الإمكان صرخ بنا للمرة الثالثة "بقولكوا إيه خلو حد بيفهم يكلمني" وانتهى الحوار ووضعنا سماعة الهاتف وقلوبنا تنزف دما وقد سقط في أيدينا ونحن لا ندري ماذا بعد...
فلم يعد بعد اللجوء إلى الأسباب واستنفادها إلا اللجوء إلى رب الأسباب لاستنفاذها ولم يعد إلا الدعاء.
 وقضينا ليلة ليلاء نتأرجح فيها ما بين اليأس والرجاء حتى جاء أمر الله وانتقلت الحبيبة إلى رحمة الله فاصطفاها إلى جواره عزيزة كريمة!
وكأنا بالموت كان أرحم بها! وكأنا بالموت كان أحنى عليها! فارتجفت قلوبنا لاستقبال الخبر ولم نجد إلا الدموع متنفسا والصبر مخرجا.
فاحتسبناها عند الله وودعناها صامدين، حتى خرجوا بها فأسلموها وقلوبنا لا تكف عن النزف وعيوننا لا تكف عن البكاء ولا يزال يتردد في آذاننا: {يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد}
أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد...
أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد...

صفية الصاوي 
(حرر في إبريل 2008م)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق